في الحروب الأهلية طويلة الأمد، كالتي في اليمن، يفترض أن تعالج السياسات الاقتصادية مشكلات الوضع الاقتصادي المتردّي الذي أنتجته بيئة الحرب، فتتبنّى سلطات الأمر الواقع سياسات وقائية تجنّب المواطنين أزمات إضافية، فبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من تدشين بنك مركزي عدن إجراءاتٍ هدفت إلى تنظيم السوق النقدية، تتضاعف تحدّيات استقرار سعر العملة المحلّية في المناطق المُحرَّرة، وانعكاساتها على الصعيد الحياتي، إلى جانب قدرته على فرض سياسة موحّدة تعمل على خفض أسعار السلع الأساسية، وكذلك تحمي المواطنين من أي ارتدادات مفاجئة. جوهرياً، تتسم السياسات الاقتصادية لسلطات الحرب اليمنية بأنها ظرفية، أي إنها موجّهة، في المقام الأول، إلى السيطرة على أزماتها الداخلية، كما تفتقر هذه السياسات إلى بعد وطني نابع من استراتيجية شاملة تهدف إلى حلّ المشكلات الاقتصادية التي تواجه اليمنيين، وتلبّي شروط الداعمين في إدارة المستوى الاقتصادي، إلى جانب أن هذه السياسات تظلّ، من حيث سياقاتها ونتائجها، جزءاً من إدارة الحرب الاقتصادية لتقييد الخصوم. ففي المناطق المُحرَّرة، جاءت إجراءات البنك المركزي في عدن، بإسناد الحكومة المعترف بها دولياً، استجابةً لضغوط الإدارة الأميركية التي هدفت إلى وقف الانهيار المتسارع للعملة المحلّية، ودفع المجلس الرئاسي إلى تبنّي إصلاحات اقتصادية متعاقبة تعمل على تحسين مركزه السياسي في مواجهة جماعة الحوثي، والأكثر أهميةً تطبيق العقوبات المترتّبة من تصنيف الجماعة منظّمةً إرهابيةً، وذلك بشلّ نظامها المالي والمصرفي، ليؤدّي ذلك إلى خنقها اقتصادياً. واتخذ بنك مركزي عدن (بإسناد الحكومة) جملةً من الإجراءات التي سعت إلى وقف المضاربة بالعملات الأجنبية، من تشكيل لجنة لتنظيم الاستيراد وتمويله إلى وقف عشرات من مكاتب الصرافة، إلى جانب تحديد سقف تحويل العملات الأجنبية إلى الخارج، وحصر التعاملات التجارية والعقارية والخدمية بالعملة المحلّية، وخفض أجور النقل وسعر مشتقّات النفط، إضافة إلى تشكيل لجان مراقبة لإلزام التجّار بيع السلع الأساسية للمواطنين بسعر الصرف المحدّد. وفي حين أسفرت هذه الخطوات عن استعادة العملة المحلّية أكثر من 45% من قيمتها التي فقدتها منذ مطلع العام الماضي (يمثّل تطوّراً اقتصادياً لافتاً)، قد لا يشكّل التركيز على خفض سعر العملات الأجنبية أداةً ناجحةً لمعالجة وضع اقتصادي أكثر تعقيداً، ولا حلحلة أزماته البنيوية.
يشكّل شحّ الموارد الاستراتيجية المتمثّلة بعائدات النفط والغاز أحد الإشكالات الجوهرية التي يواجهها الاقتصاد اليمني بشكل عام، أثّرت في حجم تدفّقات النقد الأجنبي، وفي قنوات استثماره. وفي مستوى آخر، رسَّخ هذا نظاماً اقتصادياً ريعياً واستهلاكياً يعتمد على المساعدات الخارجية لمواجهة أزماته، إلى جانب الافتقار إلى رؤية مستقبلية تعمل في تنويع الموارد وتنمية بيئة اقتصادية إنتاجية محلّية. وإذا كان تعطيل جماعة الحوثي تصدير النفط من الموانئ الخاضعة لسلطة المجلس الرئاسي قد أفقد بنك مركزي عدن سيولةً من النقد الأجنبي، لتغطية عملية الاستيراد للسلع الأساسية، بما في ذلك مواجهة نفقات الحكومة، فإن افتقار سلطة المجلس إلى القرار السيادي الذي يحتكره حلفاؤه، في ما يخصّ استئناف تصدير النفط والغاز ولو في حدّه الأدنى، جعل الوضع الاقتصادي عرضةً لهزّات متتالية، تمثّلت أحد مظاهرها في انهيار العملة، كما أن اعتماد البنك المركزي على الودائع التي ظلّت مشروطةً سياسياً من الحلفاء آلية موجهة لضبط سعر العملة المحلية، ومن دون غطاء حقيقي، فعّل من سياسات المضاربة بالعملات الأجنبية، إلى جانب فشل البنك في ضبط موارد الدولة، جرّاء رفض السلطات المحلّية التابعة للمجلس الرئاسي تحويل العائدات إلى خزانته، ما أفقده مواردَ أساسيةً لتغطية نفقات الحكومة، كما أن استمرار تسرّب الموارد لصالح سلطة المجلس والحكومة (وأجهزتها) حدّ من قدرة البنك في ضبط موازنة الدولة وخفض نفقاتها التشغيلية. وإضافة إلى ذلك أعاقت هيمنة قوى المجلس الرئاسي على الحياة التجارية والمالية فرص تشجيع الاستثمار، وتنشيط السياحة، التي تشكّل مورداً مهمّاً للنقد الأجنبي، كما أن إعاقات تأمين بيئة إنتاجية تدعم الصناعة الوطنية (جرّاء التضييق على الشركات المحلّية) دفع إلى هجرة رأس المال الوطني، ومن ثمّ تسرُّب قنواتٍ مهمّة من النقد الأجنبي. ومن جهة أخرى، فإن فرض نمط استيرادي غير منضبط، في ظلّ التحايل على القوانين التجارية، ضاعف من الضغط على النقد الأجنبي، وبالطبع على سعر العملة المحلية، فرسَّخ أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة.
تستلزم تشوّهات اقتصاد تابع للمتدخّلين، قائم على الاستيراد، عملية إصلاحه إعادة هيكلته، إلى جانب تنظيم إدارة الموارد، والأهم تجفيف شبكات الفساد وقنواتها التي تستهلك موازنة الدولة ومواردها والمساعدات المالية، بيد أن السياسات الاقتصادية الموجّهة بضغط الخارج وبتعقيدات بنى السلطة والحفاظ على امتيازاتها تهدف إلى تحجيم مظاهر الأزمة الاقتصادية لا معالجتها. وفي هذا السياق، حدّد البنك المركزي في عدن، مسنوداً بإجراءات الحكومة، خيار الإصلاح الاقتصادي بنهج أحادي قائم على فكّ ارتباط النقد الأجنبي في الحياة المدنية والتجارية والمالية، وتقنين تداولها شرطاً لتحسين سعر العملة المحلّية، إلا أن ذلك لا يعني بأيّ حال تجديد موارد الحكومة من النقد الأجنبي، ومن ثمّ تحسين الميزان الاقتصادي. ومع محدودية فعّالية هذه الإجراءات، قد تعيق جملة من التحدّيات تنفيذها، فعلى الصعيد المدني، حصر استعمال العملات الأجنبية في التعاقدات الخدمية والمدنية، ومع أنها أداة لضبط السوق النقدية، يلزم افتقارها إلى قانون الجهات والمؤسّسات تنفيذها، قد يعوق إمكانية تطبيقها، إذ قد تخضع لأهواء هذه الجهات ومدى التزامها بتعليمات الحكومة، كما أن مستويات إدارة السلطة في المناطق المحرّرة، وطبيعة تطبيق القوانين، قد تجعلان إجراءات تحديد سقف الحوالات الخارجية تفرض على المواطنين فقط، ومن ثمّ تستثني قوى النفوذ المتعدّدة. مدنياً أيضاً، فإن فكّ ارتباط النقد الأجنبي في الحياة اليومية تقضي بالضرورة مواكبتها بإجراءات إصلاحية، فتكون ملزمةً للقطاع الوظيفي لمنظومة السلطة، بيد أن رواتب أعضاء المجلس الرئاسي والحكومة وأجهزتها، بما في ذلك التشكيلات العسكرية التابعة لدول التحالف لا تزال بالريال السعودي، ولا يعني ذلك ترسيخ طبقة من الامتيازات في الأجور فقط، بل أيضاً تقليص خيارات السيطرة على النقد الأجنبي، وتثبيت استقرار العملة المحلّية. على المستوى التجاري، إن تشكيل لجنة مشتركة لتنظيم الواردات وتمويلها بمعية ممثّلين من التجّار والبنوك أداةً لتخفيف الضغط على النقد الأجنبي، وإن شكّل خطوةً مهمّةً لتمكين الحكومة من الإشراف على عمليات الاستيراد، فإن التحدّيات لا تقتصر على نزاهة اللجنة وقدرتها على وقف احتكار الشركات التجارية الكبرى، بما في ذلك خفض أسعار السلع الأساسية للمستهلك، بل تقتضي إدارة الاستيراد، بالضرورة، امتلاك غطاء نقدي من العملات الأجنبية، لضمان ثقة التجار وإلزامهم خفض أسعار المواد الأساسية، بيد أن تبنّي سياسة لا تدعمها معطيات اقتصادية واقعية أفضى إلى إرباك الحياة التجارية والمالية، فإلى جانب عدم التزام الشركات التجارية بخفض أسعار منتجاتها، خاصّة في قطاعات الغذاء، والأدوية، فقد امتنع عدد من تجار الجملة عن بيع المواد الأساسية لتجار التجزئة، ممّا قد يؤدّي إلى اختناق تمويني في مقبل الأيام، وعلى الصعيد الاستهلاكي، ومع تشكيل الحكومة للجان رقابية، فشلت في ضبط أسعار المواد الغذائية، التي اختلفت بين مدينة وأخرى، كما أنه وبالمقارنة مع مستويات تراجع سعر العملات الأجنبية أمام العملة المحلّية، ظلّ خفض أسعار المواد الأساسية رمزياً، لا يتجاوز 10%، فلا يعكس مستوى الانخفاض، كما أنه ورغم إعلان الحكومة خفض سعر بيع الغاز المنزلي للمواطنين، فإن تنفيذ هذه الإجراءات اصطدم بقوى المجلس الرئاسي وطبيعة إدارة نفوذها في المناطق الخاضعة لسلطتها.
على سبيل المثال، رفضت شركة المثلّث الشرقي الإماراتية، المحتكرة سوق المشتقّات النفطية في جزيرة سقطرى، خفض أسعار الغاز، مالياً، فإن فشل البنك المركزي في تثبيت سعر العملات الأجنبية فرض حالةً من العشوائية في تنفيذ السياسة النقدية والمالية، ففي مقابل امتناع شركات الصرافة عن بيع النقد الأجنبي للمواطنين، وشرائها منهم، وبأسعار غير ثابتة، ممّا قد يترتب منه فقدان المواطنين مدّخراتهم، تحتكر شركات الصرافة النافذة سوق العملة الأجنبية، ما قد تعني انتظار الفرصة لاستئناف دورة جديدة من المضاربة والاحتيال. في المجمل، تثبت سلطات الحرب اليمنية (وبين وقت وآخر) أن إدارة الاقتصاد اليمني آلية موجّهة للتحايل على أزماتها الآنية، وفي هذه الجزئية، لا يعني تثبيت سعر العملة المحلّية مقابل العملات الأجنبية (سلطة جماعة الحوثي) أو رفعها (سلطة المجلس الرئاسي)، تحسينَ قيمتها الشرائية بالنسبة للمواطنين، فضلاً عن أن تؤدّي هذه السياسات إلى تحسين شروط حياتهم اليومية، بل تحميلهم وحدهم كلفة أيّ تبعات اقتصادية مصاحبة أو ارتدادية مستقبلية لا يمكن التنبّؤ بها.