في اليمن… بلدٍ واحدٍ بطعناتٍ متعددة، يمكن أن ترى صورتين متناقضتين حدّ الفجيعة: هناك في مناطق سيطرة الحوثي، امرأةٌ تُقمع، تُهدر، تُخنق خياراتها، ويُختطف صوتها كما يُختطف الوطن؛ وفي المقابل، هنا في مأرب… تنبت امرأة من الرماد، تقف رغم النزوح، وتقاوم رغم انكسار البيوت، وتُعيد تعريف ما تعنيه القوة حين لا يبقى للإنسان شيء سوى أن ينهض.
وفي الوقت الذي تُظهر فيه مأرب نموذجاً لتعافي المرأة رغم قسوة الحرب، كشفت مؤسسة تمكين المرأة اليمنية (YWEF) عن تقرير صادم يوثِّق أكثر من 40 ألف انتهاك ارتُكب ضد النساء في مناطق الحوثي منذ 2015 وحتى نوفمبر 2025. التقرير، الصادر بالتزامن مع اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، يكشف عن قتل واختطاف وقنص وإصابات بالألغام واغتصاب داخل السجون، وعن نساء خسرن أزواجهن وأطفالهن وأبسط حقوقهن في البقاء. كما يحذّر المركز الأمريكي للعدالة من “إبادة صامتة” تُرتكب بحق النساء هناك.
صورة موجعة… تزيد إدراكك بأن المرأة اليمنية تواجه عالمين مختلفين داخل وطن واحد.
هكذا دخلتُ البازار السادس في مأرب… وأنا أحمل هذه الإحصاءات الثقيلة في رأسي. لكن المشهد أمامي كان أشبه بصفحة أخرى من اليمن — صفحة لا تشبه الجحيم الذي يعيشه النساء في مناطق الحوثي. هنا، في هذه المساحة الصغيرة، رأيت الدمع يتحوّل شغفاً… والوجع يتحوّل عملاً… والمرأة، التي كانت تُستهدف في جسدها وحقوقها ولقمتها، تتحوّل إلى قوّة تعيل أسرة كاملة.
كانت النساء يتحركن بين أروقة السوق وكأنهن يكتبن بمنتجاتهن رواية نهوض جماعي. كل قطعة خياطة، كل قطعة بخور، كل علبة معجنات… كانت تحمل سيرة امرأة رفضت أن تكون رقماً آخر في تقرير الانتهاكات. في مأرب، المرأة لا تُحصى… بل تُحتفى.
وأثناء تجوالي، التقيت أسماء شرهان؛ النازحة التي تحوّلت إلى فنية صيانة هواتف، لا لتنقذ الأجهزة، بل لتنقذ النساء من شبح الابتزاز. كانت كلماتها بسيطة لكنها كافية لتلخص معركة كاملة:
“المرأة تحتاج مكاناً تثق به… ونحن هنا لهذا الدور.”
وهناك، وقفت أم صدام حسين بجانب ركن النقش التقليدي، تحكي دون أن تقول الكثير: “اشتغلت لأجل أولادي… العمل هو الشيء الوحيد الذي يبقيني واقفة.”
ومع كل هذا الجمال… يبقى التحدي قائماً. السوق الدائم غائب، النظرة المجتمعية خانقة، وهيمنة الأقارب تجثم على أكتاف الكثير من النساء. ومع ذلك، لا تزال المرأة في مأرب تقاوم — تقاوم لتعيش، لتعمل، لتحمي نفسها، ولتبقى.
فهل يُعقل أن يكون في وطنٍ واحدٍ امرأةٌ تُقتل لأنها امرأة… وامرأةٌ تبني اقتصاداً لأنها تُصرّ أن تبقى؟
إن دعم نساء مأرب ليس مشروعاً اقتصادياً… بل مشروع حياة.
ليس دعماً لبيع منتجات… بل انتصاراً للإنسان اليمني الذي يريد أن ينهض، رغم كل شيء.
وهؤلاء النسوة…
لسن مجرد بائعات في بازار، بل حارساتُ ما تبقّى من كرامة هذا البلد.
في مأرب… المدينة التي حملت فوق كتفيها همَّ اليمن كلّه، تنمو اليوم حكايات لا تُروى بسهولة. هنا، حيث تجتمع الحرب والنزوح والفقر والابتزاز الإلكتروني في قبضة واحدة، تخرج المرأة اليمنية من الرماد كجمرة لا تخبو… وكأن القسوة لم تُضعفها، بل صقلتها. لم يعد التمكين الاقتصادي جدول أرقام، بل ملحمة صغيرة في كل بيت، وكل خيمة، وكل صدرٍ يحاول أن يتنفس رغم دخان الحرب.
خلال زيارتي لإعداد تقرير إذاعي، وجدت نفسي أمام مشهد لم تُخبرني عنه نشرات الأخبار. شيء يفوق الدهشة… شيء يهزّ القناعة القديمة بأن النساء “ضحايا”. لقد رأيتهن… صانعات، صابرات، مغلوبات على الوجع… ولكن غالبات على الحياة. نساء تركن شغفهن ليصبحن المعيلات الوحيدات؛
نساء وقفن في وجه حرب عبثية أشعلت النيران ورفضت كل طريق يؤدي إلى سلام يعيد النازحين إلى بيوتهم التي صارت مجرد ذاكرة.