
نفَّذت الجماعة الحوثية واحدة من أوسع حملات الإقصاء الوظيفي في محافظة إب، بالتزامن مع حملة اعتقالات طالت مئات المدنيين، بينهم أطفال، وفق شهادات معتقلين سابقين ومصادر تعليمية تحدّثت لـ«الشرق الأوسط».
وتقول هذه المصادر إن هذه الإجراءات ليست معالجات إدارية كما تروّج لها الجماعة، بل جزء من مخطط لإحداث تغيير مذهبي عميق في المحافظة التي باتت خلال السنوات الأخيرة مركزاً لمعارضة حكم الحوثيين (193 كيلومتراً جنوب صنعاء).
سجين سابق يُدعى عصام لطف -أفرج عنه مؤخراً- أكَّد لـ«الشرق الأوسط» أن الحوثيين اعتقلوا «المئات من المدنيين» في مختلف مديريات المحافظة، بينهم أطفال تقل أعمارهم عن 12 عاماً.
وأرجع لطف هذه الحملة إلى وشايات ينفذها متعاونون مع الجماعة ضد السكان، مشيراً إلى أن أغلب مَن اعتُقلوا كانوا ضحايا لممارسة حقهم في التعبير أو بسبب نيتهم إحياء الذكرى السنوية لـ«ثورة 26 سبتمبر» التي أسقطت حكم أسلاف الحوثيين في شمال اليمن سنة 1962.
وأضاف لطف أنه لم يواجه -مثل كثير من المعتقلين- أي تهمة حقيقية، وأن التحقيقات ركَّزت على «الولاء السياسي والموقف من الجماعة»، لافتاً إلى أن بعض الأطفال اعتقلوا لمجرد رفعهم صور رموز وطنية أو مشاركتهم في فعاليات مدرسية مؤيدة للثورة.
إقصاء ممنهج
في سياق عملية الإقصاء، كشفت مصادر محلية في إب -التي تُمثل واحدة من كبرى المحافظات من حيث الكثافة السكانية- أن الجماعة شرعت في تنفيذ عملية إحلال وظيفي واسعة، تستهدف المعلمين والموظفين الذين اعتقلوا أو فروا إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية.
وتأتي هذه العملية بعد قرارات حوثية بفصل آلاف الموظفين تحت مبرر «الغياب» أو «الانقطاع عن العمل»، رغم أن غيابهم كان نتيجة مباشرة للاعتقالات أو الخشية منها.
وتقول هذه المصادر إن الحوثيين «غيّبوا المئات من الكوادر التعليمية والإدارية في السجون دون تهمة واضحة»، ودفعوا الآلاف إلى النزوح من المحافظة، قبل أن يباشروا إقصاءهم من وظائفهم وتعيين عناصر موالية للجماعة بدلاً منهم.
وترى المصادر أن ما يجري «ليس مجرد تنكيل بالمعلمين»، بل هجمة منظمة تستهدف واحدة من أهم ركائز الاستقرار المجتمعي، من خلال إحلال عناصر «غير مؤهلة وغير مدربة» محل كوادر أمضت سنوات طويلة في العملية التعليمية.
وتؤكد مصادر عاملة في قطاع التعليم لـ«الشرق الأوسط» أن هذا الإحلال يأتي امتداداً لمخطط بدأته الجماعة منذ سنوات، وبدأ بتغيير المناهج الدراسية، وإدخال تعديلات عقائدية عليها، قبل أن ينتقل إلى المعلمين أنفسهم.
وتوضح المصادر أن الحوثيين حوَّلوا الاختبارات السنوية إلى «اختبارات مركزية»، هدفها مراقبة مدى التزام المدارس بالمنهج الطائفي الجديد، والتأكد من أن المعلمين «ينفذون التوجيهات العقائدية» بدقة.
وأضافت المصادر أن المعيار الوحيد المعتمد حالياً في التوظيف هو «الولاء للمشروع الطائفي»، وليس الكفاءة أو المؤهل الأكاديمي، ما يعني -حسب تعبيرهم- «تطييف العملية التعليمية بالكامل»، وتحويل المدارس إلى «مراكز تعبئة فكرية»، بدلاً من أن تكون مؤسسات لبناء الإنسان والمعرفة.
وأشاروا إلى أن هذه الخطوة تأتي رغم حرمان المعلمين والموظفين في مناطق الحوثيين من رواتبهم منذ سنوات، باستثناء نصف راتب يُصرف في مناسبات موسمية، رغم استمرارهم في العمل بدافع الإحساس بالمسؤولية قبل أن يتم اعتقالهم.
عقاب جماعي الناشط التربوي، أمين الشفق، وصف ما يتعرض له المعلمون في إب بأنه «عقاب جماعي»، مؤكداً أن حرمانهم من مصدر رزقهم وتهجيرهم «ليس مجرد مخالفة قانونية، بل إهانة لسنوات الخدمة التي قدموها»، محذراً من «انهيار العملية التعليمية» في حال استمرار هذا النهج.
وقال الشفق إن مستقبل التعليم في مناطق سيطرة الحوثيين «يُعاد تشكيله بطريقة خطيرة لا تحترم الإنسان، ولا تقدّر مكانة المعلم».
وشدّد الشفق على أن «تربية الأطفال على قيم الطاعة العمياء للفكر الحوثي» تُمثل خطراً مباشراً على الهوية الوطنية وعلى مستقبل الأجيال.
وأضاف: «ليست قضية المعلمين ملفاً إدارياً عابراً، بل ناقوس خطر يكشف أن التعليم أصبح هدفاً رئيسياً ضمن مشروع الجماعة لإعادة هندسة المجتمع على أسس طائفية».
كما دعت مصادر تعليمية في إب أولياء الأمور إلى إدراك حجم المخاطر التي تُهدد أبناءهم بسبب إحلال معلمين غير مؤهلين، محذرةً من أن «المعلم غير المؤهل لا يصنع وعياً، بل يصنع جيلاً هشّاً، ضعيف التفكير، ومفتوحاً للتأثير الآيديولوجي».
وقالت المصادر إن المجتمع إذا لم يتحرك لحماية العملية التعليمية فإن «جيلاً كاملاً سيدفع الثمن، وسيجد نفسه منساقاً إلى ثقافة طائفية متطرفة تعادي الآخر وتقصي المختلف».
وخلال السنوات الماضية بذل كثير من الأسر جهوداً كبيرة لتحصين أطفالها من آثار التعبئة الحوثية، عبر شرح ما يجري في المدارس وتفنيد الرسائل الطائفية التي يتعرض لها الطلاب، وكانت هذه الجهود -حسب المصادر- «عاملاً مهماً في منع اندماج الأطفال في الدعاية الحوثية»، لكنها «قد لا تصمد طويلاً»، في ظل عملية إحلال وظيفي واسعة تستهدف كل معلم غير خاضع لسلطة الجماعة.