(يمه الغداء الذي جهزته لي ما بقدر اكله.. أعطيه لابنة عمي المصابة)ودعت سوسن أمها بهذه الكلمات، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بأحضانها، ناجت ربها كثيرا قائله (اتيتك يا الله انا واخواتي) فقد كان الموت يتجاذب روحها الطاهرة.
هكذا تعيش الطفولة باليمن مسلوبة وقضيه منهوبه وأجساد مصلوبة، طفوله كبرت قبل الأوان، ونسيها الزمان في زمن الحرب والحقد، في زمن لم يعد للطفولة سوى الاحتراق تحت رماد الحقد.
ماذا ننتظر في المستقبل لأطفال يعيشون حياه مروعه وخائفة، يعيشون مشردون ضائعون، لا يسمعون نغمة سوى أصوات البنادق والمدافع، ولم يروا مشهداً سوى الحرائق والدمار والخوف، ولم يشعروا بطعم الأمن والسلام يوماً ولا حتى بلقمة العيش الهنيئة وان نجا منهم يكون حبيس الإعاقة أو الجنون.
يقول حزام قادري أحد اقارب الطالبات الضحايا : " لم نكن نتوقع ان يموت الضمير الانساني لهذه الدرجة ويقتل اطفال أبرياء بهذه الطريقة ، في ذلك اليوم هرعنا جميعا إلى مكان الحادث ورأينا الفتيات يحترقن داخل الحافلة والحريق يلتهم أرجلهن الصغيرة ، أشلاء البعض منهن قد تطاير في كل مكان، دفاترهن وحقائبهن التهمتها النيران، الهلع والخوف والسواد اكتسي وجه من نجي منهن، فهناك من فقدت عينها وأخرى أذنيها أو أطرافها، ومنهن من اخترقت الشظايا أجسادهن، فاجعه لن انساها ما حييت كل من شاهد المنظر انهمرت دموعه وتمزق قلبه من الألم.
ويتابع بقوله: "اخرجنا السائق وقد اختلط لحمه مع حديد الحافلة، وحملنا الفتيات المصابات وكذلك جثث الشهيدات" ويضيف : "عند الانفجار خرجن النساء من كل منزل بحاله هلع يتفقدن بناتهن ".
أخبرني أحد الشباب أن أمه أول ما سمعت الانفجار صرخت بأعلى صوتها (البنات) فإحساسهن كان عاليا بفلذه اكبادهن وبالفاجعة التي ستلتهم حياتهن.
اسعفن الطالبات للمستشفيات القريبة، وللأسف كان استجابتهم بطيئة أمام حجم الفاجعة التي حلت بآل قادري والأهالي الآخرون.
ويضيف بحزن عميق: " أكثر ما أثر بي واحزنني عندما قمنا بإسعاف ( الطفلة سوسن لذمار كون حالتها خطيره جدا كانت في حضن والدتها المكلومة تئن من الوجع وتقول (يا لله اتيناك أنا واخواتي يالله )ثم نظرت بإعياء نحو أمها وقالت: (الغداء الذي جهزت لي ما بقدر اكله اعطيه لابنه عمي المصابة )، ثم لفظت انفاسها الأخيرة ووالدتها تحتضنها بقوة.
ويسرد عمار التام قصه نُهى اليتيمة بقوله : " لم تكن تعلم أم الطفلة اليتيمة (نهى ) التي تعاني قسوة الحياة بعد فقدان زوجها قبل سنوات ؛ أن هنالك معاناة جديدة ستفترس حياتها ، كانت تنتظر عودة ابنتها الصغيرة ( نهى ) من المدرسة وهي تحمل حقيبتها القديمة على ظهرها ؛ تترنح في مشيتها يميناً وشمالاً تسابق الطريق، لكن طفلتها الصغيرة لم تعد إلى المنزل.
ويضيف :" فقد كانت هناك ومعها زميلاتها في موعد دون سابق إنذار مع مشاريع الموت التي لا تفرق بين حقيبة طالبة وجعبة مسلح ؛ أو بين وجه قاتل وبراءة الطفولة، فنُهى الآن تحمل على جسدها بشاعة المجرم وفي قلبها ألم اليتم .
يتحدث عمار التام وهو ناشط محلي، عن وجه آخر من مأساة الطالبات الضحايا، مبيناً أن أسر الطالبات الضحايا ، تعيش أوضاعا مأساويه، نظرا لفقدان بعض أطفالها الصغار، ويضيف : "وبقاء البعض من هؤلاء الطالبات على قيد الحياة بجراحهن، و لكن كضحايا الانفجارات تبقى الجراح التي في الصغار تدمي قلوب وعيون الكبار ، ومما زاد المعاناة أن الطالبات هن بنات قرية واحدة صغيرة ، فتكتل الحزن في هذه البقعة الصغيرة فأثقل كاهل قرية ال قادري".
ويؤكد التام أن القضية لم تلاقي حقها من البعد الاعلامي ، و كأن الأمر حدث عابر ، تم الترحم فيه على اللاتي قضين في هذه الحادثة فتم عرضها كخبر وكفى ، ولكن بقاء الجريحات جعل هذه الحادثة مثل كرة الثلج، تكبر مع المعاناة، فلنا أن نتخيل ما تحتاجه هؤلاء الفتيات من علاج نفسي وجسدي لأمد بعيد وعائلتهن ذوي دخل محدود ، هذه القضية كارثة مضاعفة لا تزال موجاتها الارتدادية متواصلة على الاهالي، بينما الإعلام غاب عن معانتهن تماماً. وانتهي لديهم المأساة بخبر .
ويضيف التام: " الجانب الحقوقي ، لايزال هناك شباب يعملون بمجهود شخصي توثيق المعاناة والانتهاك حتى لا يضيع حقهن "، ساخراً من دور الدولة الغائبة التي انحصر موقفها بدقيقة حداد، اعلنتها وزارة التربية على أرواح الشهيدات، وأضاف : " لم نجد لأي تجاوب من الدولة ".
وأشار إلى أن هناك جهد شعبي قبلي مشكور لأبناء رداع للملمة الجراح والمساهمة في تخفيف أوجاع الأسر ومعاناتهم المادية والنفسية حتى لا تسرق العبوات الناسفة آمالهم في هذا المجتمع القبلي يعاني من صدمه شديدة، وخاصه أنه يعتبر أن الفتاه شيء عظيم في الحياه .
يحدثني والد أريج قادري المصابة بكسور وحروق بجسدها عن وجه آخر من المأساة عندما وجد طفلته الصغيرة بين ركام الجثث والأشلاء ظل يناديها حتى سمعت صوته حملها بين ذراعيه فتشبثت به مذعورة قائله (لأن أذهب إلى المدرسة لا أريد أن ادرس)، ويتابع بحزن شديد : " عندما اذهب للمشفى لزيارتها تبكي وتطلب مني أن أرجعها إلى المنزل، ما ذنب ابنتي والفتيات الاخريات، ما هو الجرم الذي ارتكبنه حتى يحرقن أحياء أي بشر يرتكبون مثل هذه البشاعة" .
ويؤكد والد أريج شعور الأهالي بالاستياء والألم من تخاذل الحكومة ورئيس الدولة والجهات الأخرى واهمال الضحايا وعدم تقديم أي مساعده لعلاجهن رغم أن أكثرهن اصابتهن خطيره يحتجن إلى السفر للعلاج، مطالباً بسرعه التحقيق في الحادثة، ومعاقبه من ارتكب هذه الجريمة البشعة.
جاء صوت نهي منهكا بألوان الفاجعة كانت تريد أن تفهمني مدي ألمها بعدما دخت الشظايا رأسها وقطعت أذنها قالت لي أنها تشتاق لزميلاتها جميعهن ولا تريد العودة للمدرسة.
كذلك كان هو حال جني (8سنوات) ، فكرسي الدراسة أصبح كابوسا مخيفا يذكرها بلحظه الانفجار وأشلاء زميلاتها، قالت بصوت متهدج :(ما شتي المدرسة ما بخرج من البيت ).
عبرت امهاتهن عن حزنهن الشديد لحال بناتهن وعجزهن أمام أنينهن، فلهجت السنتهن بدعاء حار إلى الله بأن يحرق من أحرق بناتهن ومستقبلهن.
يصف محمد الزوبه، وهو اعلامي وناشط حقوقي، الوضع الاقتصادي لأهالي الفتيات المتضررات من الحادث بالصعب، ويضيف: " بسبب الثأرات القبلية والتي راح ضحيتها ما يقرب من 60 قتيل، فقط هلكت مزارع القات التي يملكونها وتعتبر مصدر دخلهم واقتصادهم فكثيرا منهم اصبح بحكم المعسر فالحادثة برمتها كارثه انسانيه على أهالى الضحايا والمنطقة.
ويتابع : " فمثلا منير السوداني لديه ابنتان مصابتان بالمشفي ، عندما لم يستطع مواصلة دفع تكاليف علاجهن أراد اخراجهن، كما أن هناك بعض أهالي الفتيات اضطر لبيع أشياء من مقتنياته ليتمكن من علاجهن، وما زاد من آلامهم إهمال و عدم التفات الجهات الرسمية والمعنية لتخفيف هول الكارثة عليهم "، مشيراً إلى أنه " لم تتكفل أي جهة بعلاجهم حتى الآن ".
وأوضح الزوبة أن الخاسر الأول من الارهاب هو المجتمع اليمني، مشيراً إلى أن هذه جريمة بحق الطفولة، تنكرها كل الشرائع السماوية والقيم الإنسانية ' والاعراف المجتمعية '، منوهاً إلى أن استغلال الحادث لتبرير أجندات معينه يمثل استخفاف بحق الإنسانية.
يقول عبد الكريم والد نُهى إن ابنته تعاني من إصاباتها الشديدة وحالتها النفسية المتردية بسبب الحادث وهول الفاجعة، ما دفعها إلى كره المدرسة، ورفضها الخروج من المنزل.
و استنكر القادري إهمال الدولة والجهات الحكومية والمنظمات والاعلام للجريمة البشعة وعدم الاسراع بالتحقيق في الحادث الاجرامي، مختتما حديثه بالقول: "كأننا لسنا بشر" .
من جانبه أكد أحمد قادري (قريب للضحايا) أن كثير من أهالي الضحايا رهن أرضه أو باع ذهب زوجته لعلاج بناتهم ، مبدياً إستياءه من الاهمال الذي وجدوه في المستشفيات أثناء اسعاف الضحايا، حيث أكد أنه لم يتم الاعتناء بهن إلا أن بعد أن تم دفع مبالغ ماليه، بينما هناك كثير من الأهالي عاجزون عن مواصلة العلاج بسبب التكاليف الباهظة.
وطالب القادري " كل انسان له قلب ان يتفاعل مع الاسر المنكوبة ويقدم ما يستطيع لإنقاذ الارواح الباقية للفتيات الضحايا".
من جانبه عبر ناصر علي الصانع، مدير مكتب الإعلام بمديريات قطاع ????، عن حزنه العميق لما حدث لأولئك الطالبات البريئات، وأضاف قائلاً: " للشخص ان يتخيل الموقف أن تذهب الى المدرسة أكثر من ثلاثين طالبة تتراوح أعمارهن بين 11 عام و 8 أعوام ؛وفجاءة تحرق اجسادهن داخ حافله ..ما ذنبهن ؟".
وأشار إلى صوره من المأساة لثلاث طالبات شقيقات وهن طيبة 9 سنوات وسعدة 8 سنوات وشمس 7 سنوات، توفيت سعدة في نفس اللحظة فيما لا تزال طيبة وشمس في غرف العناية واحدة في ذمار والأخرى في صنعاء والدهن يعاني من مرض السرطان ولا يمتلك قيمة إبرة والدتهن انجبت في نفس يوم الحادث مولودة جديدة، أي معاناة أكبر من هذه المعاناة، بعجز اللسان عن التعبير.
ويشير الصانع إلى أن كثير من هؤلاء الطالبات يتيمات فقدن آباؤهن في قضايا ثارات قبلية كون جميع الطالبات من قبيلة ال قادري ؛ هذه الثارات خلفت أكثر من 60 قتيل منهم اباء للطالبات الضحايا.
وقال الصانع أنه عند زيارته لأهالي الطالبات راي كارثه إنسانيه بكل المقاييس فجميع الطالبات الجرحى يتعالجن على نفقات أهلن في مستشفيات خاصة، بعضهم رهن مجوهرات زوجته لدى المستشفى وبعضهم سلاحه ، في حين أن بعض الطالبات حالتهن حرجة وتستدعي السفر للخارج، وقليل منهن لا تزال محجوزة في المشفى مقابل التكاليف.
وتحت ركام المأساة لم يقدم لهن سوى قراءة الفاتحة ووقفة حداد، في طابور الصباح بالإضافة الى التنديد والاستنكار .
ووجه الصانع رساله لرئيس الدولة والمنظمات الحقوقية وغيرها بقوله: " يا فخامة رئيس الجمهورية وسعادة رئيس الوزراء الطالبات الضحايا لسن بحاجة الى قراءة الفاتحة منكم ولا وقفة حداد في طابور الصبح ؛ لا نها لا تحيى ميتاً ولا تجبر كسراً ولا تعالج جريحاً ؛ هن بحاجة الى رعاية صحية كاملة و لفته كريمة منكم و تبني علاجهن على نفقه الدولة ".
وأضاف: " أقول للمنظمات المانحة والدول العظمى التي أدانت الحادثة ومجلس الامن الطالبات لسن بحاجة الى أدانتكم ولا بياناتكم ، هن بحاجة لمنح علاجيه ببلدانكم ، أما رجال المال والتجار من أبناء ???? الذين لا يرونهم الناس إلا في مواسم الانتخابات ، و دسوا رؤوسهم في التراب أمام هذه القضية الإنسانية ، سيلعنكم التاريخ و الأجيال ".
واعتبر الصانع قضية حادثة طالبات مدرسة الخنساء برداع جريمة في حق الطفولة لا تسقط بالتقادم، واستغلالها جريمة بحق الإنسانية.